
تمضي بواكير الأيام في الجامعة، على الطالب الذي بدأ توًّا محملة بأسئلة تتزاحم في ذهنه والتي تعكس قلقه، هل تخصصي مناسب؟ كيف أحقق التميز والامتياز؟ ما مستقبلي بعد التخرج؟ … لكنّه لم يلبث طويلا في هذه الدوامة، حتى تسلل إليه سؤال مختلف يحمل في طياته نداء أعمق، تجاوز التخصص والمستقبل القريب، سؤال مسّ جوهر المعرفة، ماذا يمكنني أن أضيف؟
فيُوقظُ عقله فضولٌ لا يهدأ وتطرقُ ذهنه أسئلةٌ لم تُدرّس.
هنا .. تبدأ الرحلة الحقيقية من الطالب المتلقي إلى الباحث المُنتج.
والذي قد تولد فكرة بحثه من دهشةٍ صادقة أمام ظاهرةٍ مألوفة، أو من تساؤل عارضٍ أثناء قراءة.
فالبحث العلمي ليس امتدادًا للدراسة فحسب، ولا هو ترفٌ فكريّ، بل هو موقفٌ من الحياة؛ موقفُ من يتساءل، ويشكّ، ويفكّر، ثم يكتب. هو انتقال من عالم الإجابات الجاهزة إلى عالم الأسئلة المعلّقة، ومن الحفظ إلى التحليل، ومن استهلاك المعرفة إلى صناعتها. وكل باحثٍ أصيل كان يومًا طالبًا هادئًا، تساءل في داخله: " ألا يمكن أن أضيف شيئًا؟ ".
وإنني، وأنا أمضي في دربي البحثي، أستشعر الفرق بين من يطلب المعرفة ليمتلكها، ومن يطلبها ليُسهم في بنائها. فالأول قارئ، والثاني باحث، كما ان الطالب يمر على الفكرة، أما الباحث فيتوقف عندها، يفتّش خلفها، ويسعى لتوثيقها وتطويرها.
الرحلة لا تتطلب عبقرية خارقة، بل تبدأ بـالفضول الصادق، وتنمو بالاستمرارية، وتزدهر بالتوجيه الصحيح. وقد وفرت الجامعات السعودية اليوم – بحمد الله - مجالات زاخرة بالفرص لدعم هذه التحولات: مراكز أبحاث، قواعد بيانات، إشراف أكاديمي، وحوافز للنشر، وكلها أدوات تمكّن الطالب من أن يخطو خطواته الأولى بثقة.
كثيرٌ منا، طلاب الدراسات العليا لم نكن نرى أنفسنا باحثين، في البداية كنا نبحث عن إجابات، ثم تعلّمنا كيف نصوغ الأسئلة.
واليوم، وقد قطعت شوطًا في مساري البحثي، أدرك أن أعظم ما تقدمه لك الجامعة ليس الشهادة، بل المنهجية التي تصنع منك مفكرًا مستقلًا.
فليكن لكل طالب فضول، ولكل فضول مشروع بحث، فالعلم لا ينهض إلا بمن يسأل، ويبحث، ويكتب…
ومن يعرف طعم البحث مرة، لا يعود كما كان أبدًا.
الكلية التطبيقية بالأفلاج