تحت ضغط الإنجاز، متى للإنسان أن يتنفّس؟

عندما بدأت رحلتي في الماجستير، ظننت أن أكبر ما سأواجهه خلال دراستي هو تنظيم الوقت، والتركيز، والإنجاز.
لكن الواقع علّمني أن التحدي الأكبر تجاه نفسي هو أن أجد لحظة ووقتًا لأتنفّس فيهما!!
نعم، فقط أن أتنفّس.
أن أُوقف سباق الأفكار، وأصمت أمام كل ما يطالبني بأن أكون جاهزة، مثالية، منتجة، ومستعدة.
أن أسمح لنفسي أن أهدأ قليلًا، لا أن أنهار، وأن أوازن بين كل ما أُمسك به لكي لا أسقط.
في هذه المرحلة، لا نعيش فقط بين المراجع والبحوث والتصفح، بل بين مسؤوليات الحياة، والعمل، والتزاماتنا تجاه أنفسنا، وأهلنا، ومجتمعنا.
هي ليست فقط مرحلة أكاديمية، بل إنسانية بامتياز، مرحلة تختبر فينا الصبر، والمرونة، والقدرة على التحمّل والإنجاز رغم الظروف.
وأنا، نورة، لم أبدأ هذه الرحلة من نقطة الراحة والاستعداد، بل من نقطة الفقد والوجع.
بدأتُ رحلة الماجستير بعد رحيل أمي – رحمها الله – خلال أشهرٍ قليلة معدودة، وكنت أعيش تفاصيل الحزن الثقيلة، بينما كنت أكتب مقدمات بحثية، وأراجع خططًا دراسية، وأذاكر، وأستعد لباقي التكاليف والمتطلبات الكثيرة.
لم يكن إنجازي عاديًا، كان ممتزجًا بالبكاء، والدعاء، والخوف، والتردد كثيرًا، والصمت الطويل… لكنني حاولت الاستمرار.
“الإنجاز يحتاج إلى تنفّس ووقت”
نظن أحيانًا أن الإنجاز يعني أن نعمل بلا توقّف، لكن في الحقيقة!
نحن بحاجة إلى محطات توقّف نُعيد فيها شحن أنفسنا من جديد، وإلّا تحوّل الشغف إلى استنزاف.
الاستمرار دون توقّف لا يصنع إنجازًا، بل يحوّل الشغف إلى إنهاك.
بل نحتاج إلى التوقّف أحيانًا، لا لنتراجع إلى الخلف، بل لنحمي ما تبقّى من شغفنا ونستمر.
مثلما العداء الذي لا يمكنه إكمال السباق دون أن يلتقط أنفاسه، الباحث كذلك يحتاج إلى فترات هدوء حتى يستمر، حتى يُعيد توازنه من جديد ويواصل.
مع العلم أن خلف كل إنجاز، حكاية إنسانية لا تُروى في الهوامش:
• هناك من تكتب وهي تُرضع طفلها.
• وهناك من يعود من وظيفته منهكًا ليكمل بحثه.
• وهناك من يرعى مريضًا أو يعتني بأسرته بكل حب، ثم يعود ليكتب وكأن قلبه خفيف لا يحمل شيئًا.
• وهناك – مثلي – من فقد جزءًا من روحه، لكنه ما زال يحاول أن يزرع المعنى في كل سطر يكتبه ويحاول.
نعم، نحن نُنجز!! ولكن خلف كل إنجاز حقيقي، قصة صامتة من الألم، والصراع، والنجاح الداخلي.
متى نستطيع أن نتنفّس؟ وكيف؟
طرق جربتها بنفسي، وشاهدتُها تصنع فرقًا حقيقيًا:
1. نظّم نفسك، لا وقتك فقط:
خصصت وقتًا لنفسي مثلما خصصت وقتًا للمذاكرة.
كنت أسأل نفسي: كيف أشعر؟ ماذا أحتاج؟ متى أرتاح؟
وهذه الأسئلة وحدها كانت تعيد توازني.
2. التنفّس ليس مجازًا، بل علاج:
التنفّس ليس كلمة يُقصد بها معناها الحرفي فقط، بل لها دلالة أعمق.
تعلّمت أن التنفّس بعمق، ولو لخمس دقائق، قادر على أن يُعيدني إلى اللحظة، إلى وعيي، وإلى طمأنينة صغيرة تُعينني على المواصلة والاستمرارية.
3. هناك أيام لا تُنجز فيها شيئًا، لكنها تُعلّمك كل شيء:
مرّت عليّ أيام لم أكتب فيها حرفًا، لا لأنني كسولة، بل لأنني مستهلكة، غير قادرة على الاستمرار.
بكيت، ثم فهمت بعدها أن الراحة ليست تراجعًا، بل إعادة بناء، و”البطء أحيانًا هو النجاة”.
4. المثالية تسرق منك متعة التعلّم والإنجاز:
تعلّمت ألّا أبحث عن الكمال التام، بل عن الاستمرار.
كل تقدّم، مهما كان صغيرًا، هو انتصار.
“الكمال وهم، والتقدّم هو المكسب الحقيقي”.
ومع كل هذا الزحام، تعلّمت أن أستند إلى ما لا يهتز: التوكل الحقيقي على الله.
ليس توكل اللسان فقط، بل يقين القلب بأن كل خطوة أخطوها، وكل جهد أبذله، وكل لحظة ضعف أمرّ بها، هي تحت نظر الله، وبرعايته، وبتقديره الحكيم.
وتعلّمت أن التفاؤل ليس تجاهلًا للواقع، بل إيمان عميق بأن بعد العسر يُسر، وبعد الضيق فرج، وأن كل تعبٍ صادق لا يضيع عند الله.
هذا الإيمان وحده كان أحيانًا كافيًا لألتقط أنفاسي، وأواصل.
في النهاية: لا تنسَ نفسك وسط الإنجاز.
لسنا وحدنا، صحيح أن مشاعرنا لا تُدرّس، لكنها تُعاش بصدق بيننا نحن طلاب الدراسات العليا.
الماجستير ليس فقط مرحلة علمية، بل تجربة شخصية عميقة نتغيّر خلالها، ننضج، ونتعلّم أن الإنجاز الحقيقي ليس فقط في عدد الصفحات التي نكتبها، بل في عدد المرّات التي وقفنا فيها بعد أن كدنا نسقط.
لذا، دعونا نُنجز، لكن دون أن نُنهك أنفسنا،
ودون أن نغفل عن حاجتنا للتنفّس والراحة.
فأحيانًا، نفسٌ هادئ واحد كفيل بأن يُعيد إلينا قدرتنا على الاستمرار،
بل قد يكون بداية لإنجاز أعظم وأجمل.
أنا نورة، في طريقي لأصبح باحثة بإذن الله…
أدرس الماجستير الآن، وأعمل على أول بحث علمي لي.
ولا زلتُ أتعلم – يومًا بعد يوم – أن الإنجاز لا يعني أن نمضي بلا توقّف،
بل أن نستمر رغم كل ما نمرّ به،
وأن نمنح أنفسنا فرصة لنتنفّس.
نورة إبراهيم المنصور
طالبة ماجستير – إدارة وتخطيط تربوي