السعودية وثقافة “أبشر”

السعودية وثقافة “أبشر”

كلية إدارة الأعمال
لقد حفظت ذاكرة طويلة المدى مني - منذ فجر وطأتي بلاد الحرمين الشريفين - ثقافاتٍ ما قدّر الله أن تُحفظ، ولا يسرّ القلب أن يضيع منها شيء.
لكن المعاني والأبعاد التي تترامى إليها ثقافة “أبشر” ظلت تسرق قلبي، فوددت أن أكون أول المتبادرين للحديث عنها.
فهل سأكون أول من تناول هذه الثقافة، وقد كانت ظاهرة متبلورة في كيان من قبلي؟!
إلا أنها نالت رغبتي واهتمامي.
إنها كلمة في معنى الجملة، كلمة تلين بها القلوب، وتلهم الأمل، وتقوي العزيمة، تسيغ في الألسن كالماء العذب في الحناجر.
هي على الرجاء حاملة، وعن القنوط رادعة، تطفئ شرارة اليأس، وتضيء مدارك اليقين.
لم تخرج هي والألفاظ ذات الصلة بها عن تقوية وشيجة التوكل والثقة بالله.
ففي “لسان العرب”: “أبشر” تعني إدخال الفرح والسرور على شخص، وإظهار البشرى أو المظهر الحسن، أو الشيء الجيد.
وفي “معجم الرياض”: “أبشر” فعل لازم بمعنى: فرح وسُرّ، وأَبْشِرْ: بمعنى الحث على قبول البشرى.
وأما الألفاظ ذات الصلة بها، فقد أوصلها “معجم الرياض” إلى ما لا يقل عن أربعين لفظًا، منها:
إبشار، استبشار، استبشاري، استبشارية، استبشر، باشر، بشّار، بشارة، بُشِّر، بشرة، بشرى، بشري، بشرية، بشير، بُوشِر، تباشر، تباشُر، تباشير، تبشير، تبشيري، تبشيرية، مباشَر، مباشر، مباشرة، مباشرةً، مباشِرة، مباشَرية، مبشَّر، مبشِّر، مبشَر، مبشِر، مبشَّرة، مبشِّرة، مبشّرة، مبشور، متباشر، مستبشر، مستبشَر، يُبشِّر.
وكلها تحمل دلالات إيجابية تتعلق بالفرح، والسرور، والإيجابية، والخير.
كانت أول كلمة شدت انتباهي – وأنا حديث عهد بالمملكة – هي “أبشر”،
فهي مبدأ من مبادئ المملكة العربية السعودية نحو تحقيق قوله تعالى:
﴿ومن دخله كان آمنًا﴾.
لقد أعطت المملكة هذه الآية كمًّا هائلًا من المعاني الثقافية، ومن بينها “أبشر”، لتكون دليلاً باهرًا على صفة الأمن التي حباها الله بها.
وبعد مزاولتي لبني سعود، لاحظت ثلاثة وجوه تتجلّى جميعها في تحقيق مبدأ:
“ومن دخله كان آمنًا”:
أولًا: الوجه القولي
يتمثّل في عبارة “أبشر”.
فكلما قصدتهم حاجة، لا يعرفون لفظ “لا”، بل مهما عظم الأمر، يُقضى بكلمة “أبشر”.
وجدتني يومًا مستفسرًا عن إمكانية فتح بوابة الدراسات العليا للطلاب الدوليين في جامعتي – جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز – أتنقل من مكتب إلى آخر،
ولو كنتُ أدوّن التغذية الراجعة في ورقة غير مسطّرة، لاسودّت بكلمة “أبشر”.
حينها أثارت هذه الكلمة في ذهني تساؤلات متباينة:
هل لهذه الثقافة أصل من الكتاب والسنة؟
هل لها عندهم فهم مشترك؟ أم هي كلمة تجري على الألسن عفوًا؟
فحضرتني الآيات:
﴿فبشّر عبادِ﴾
﴿وبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلًا كبيرًا﴾
وتذكرت حديث أبي موسى وضي الله عنه .
قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو نَازِلٌ بالجِعْرَانَةِ بيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، ومعهُ بلَالٌ، فأتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْرَابِيٌّ فَقالَ: ألَا تُنْجِزُ لي ما وعَدْتَنِي؟ فَقالَ له: أبْشِرْ، فَقالَ: قدْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ مِن «أبْشِرْ»، فأقْبَلَ علَى أبِي مُوسَى وبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الغَضْبَانِ، فَقالَ: رَدَّ البُشْرَى، فَاقْبَلَا أنْتُما، قالَا: قَبِلْنَا، ثُمَّ دَعَا بقَدَحٍ فيه مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ووَجْهَهُ فيه ومَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قالَ: اشْرَبَا منه، وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُما ونُحُورِكُما وأَبْشِرَا. فأخَذَا القَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِن ورَاءِ السِّتْرِ: أنْ أفْضِلَا لِأُمِّكُمَا، فأفْضَلَا لَهَا منه طَائِفَةً.
( صحيح البخاري )
حين تأملت كم مرة كرر النبي ﷺ “أبشر”، فهمتُ أنها أسلوب بديع في إثلاج القلوب وبثّ الحيوية،
وأنها سنة يجري العمل بها عند هذا الشعب الكريم،
وأخواتها تتمثل في أقوالهم: “أي خدمة”، “تبعثني بحاجة”، “لا تقلق”، “سلّمك الله”، “الله يعطيك العافية”، “غفر الله لك”، وغيرها كثير.
ثانيًا: الوجه التعاملي
يتجلّى في مسحهم رؤوس المساكين، وتكريمهم طلاب العلم،
وكم تعجبني تلك المعانقة والتقبيل، اللذان يعكسان الانفتاح الكامل والمودة التي لا تنصرم.
وتتمازج المعانقة بكلمات رائعة مثل: “كيف حالك”، “أيّش لونك”، “عساك طيب”، “بشّرنا عنك” وغيرها.
ثالثًا: الوجه الإبداعي
يتمثل في مسميات الأنظمة والتطبيقات التي تحكي هذه الظاهرة، مثل:
“نظام أبشر”، “نفاذ”، “توكلنا”، “علّام”، “كلنا أمن” وغيرها من التطبيقات التي تعكس ثقافات المملكة الأصيلة.
وقد نالت هذه المسميات رواجًا كبيرًا بين طلاب العلم، لا سيما الأجانب،
حتى أصبحنا نستخدمها رمزيًا لمراحل مختلفة، فنقول:
– عند التقديم على أمر: “أبشر”
– عند بدء التنفيذ: “توكلنا”
– عند إتمامه بنجاح: “نفاذ”
كلها ثقافة إيمانية ومبادرات طيبة، قد لا نقدّرها، لكنها عند الله عظيمة.
قال النبي ﷺ:
“إن العبد ليتكلم بكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات…” (رواه البخاري).
وفي الختام
إن مبدأ “أبشر” أصيل في تمتين الروابط، وتحقيق الثقة، وتعزيز التعاون والعمل المشترك.
أبشر بكونك – يا أخي – ببلدةٍ
دوماً يُبشِّرُ أهلُها بالمنّةِ
أسأل الله جل في علاه أن يديم على بلاد الحرمين الشريفين أمنها واستقرارها.
آمين.