اللغة: هل هي أداة للتواصل، أم قيد للعقل؟

هل تُنسب حرية افكارنا لنا، ام ان اللغة تتحكم بها أكثر مما نظن؟
لطالما عُرفت اللغة بأنها طريقة ووسيلة للتواصل البشري. كأداة نستخدمها لنقل افكارنا ومشاعرنا، ولكن بدأ الباحثين والفلاسفة بعد التعمق باللغة بطرح تساؤلات أكثر عمقًا: هل اللغة هي التي تشكل افكارنا؟ وهل من الممكن ان تكون حواجزها تمنعنا من رؤية ما هو خارج حدود اللغة المكتسبة؟
في هذا المقال وخصوصا كطالبة لغويات سنتعمق بالعلاقة المعقدة بين اللغة والعقل ونبحث عن جميع الأجوبة لسؤال: هل اللغة توسع مدارك الانسان ام انها تُقيده داخل أطر لا يستطيع تجاوز حدود لغته فيها؟ سأعرض وجهات نظر متباينة ومدعومة بأمثلة من الحياة الواقعية وأبحاث لغوية وتجارب شخصية حديثة.
تعلمنا في اللغويات بأن منذ الطفولة يبدأ تكوين وعينا وفهمنا حيال الأشياء والعالم من خلال اللغة. الكلمات الأولى التي نبدأ باكتسابها من حولنا لا تقتصر فقط على تواصلنا مع من حولنا، بل تبدأ في تشكيل الطريقة التي ننظر بها الى الأشياء ونفهمها. فاللغة تتيح لنا فهم الأشياء وتسميتها وأيضا التفريق بين المفاهيم ولا ننسى تنظيمها لأفكارنا بطرق سلسه لا نستوعب عُقدها خلال التكوين.
العديد من العلماء بالأخص علماء النفس أكدوا على ان التفكير المجرد لا يمكن حدوثه بدون لغة. فعندما نفكر في شيء، غالباً ما نفعل ذلك على هيئة حوار داخلي.
كما أظهرت دراسات في علم اللغة اللغوي أن تطوير المهارات اللغوية عند الأطفال مرتبط مباشرة بتطورهم المعرفي. وبذلك، يمكن القول ان اللغة لا تتيح فقط التعبير عن الأفكار، بل تخلقها وتمنحها اشكالا قابلة للفهم. وهكذا يتضح أن اللغة تمثل أداة قوية لتنظيم التفكير. لكن، هل يمكن أن تكون هذه الأداة نفسها سببًا في تقييد العقل؟
رغم ما تقدمه اللغة لنا من فوائد، إلا ان بعض الفلاسفة يرون فيها قيداً على تفكير المرء أكثر من كونها أداة حرة.
وفقا لفرضية النسبية اللغوية (Sapir–Whorf Hypothesis)، فإن اللغة التي نتحدث بها تؤثر في طريقة تفكيرنا، بل قد تحد وتحصر من قدرتنا على تخيل وفهم مفاهيم لا تحتويها مفردات لغتنا.
تخيل شعورًا داخليًا معقدًا تحاول وصفه، لكنه يظل عالقًا بين فكرك ولسانك، لأنه ببساطة لا توجد له كلمة في لغتك. هل يعني ذلك أن الفكرة غير موجودة؟ أم أن اللغة تخلق الفكرة نفسها؟
في مادة علم اللغة الاجتماعي ((Sociolinguistics درسنا العلاقة بين اللغة والمجتمع وذكرنا بأن الاطفال في مراحلهم الأولى لا يملكون قدرة واضحة على تصور المستقبل، لأن كلمات مثل "غداً" أو "لاحقًا" لم تدخل قاموسهم بعد. فمع تعلم هذه الكلمات، تتوسع قدرة عقلهم على تخيل الوقت والاحتمالات، مما يشير إلى أن اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل بوابة لعوالم فكرية جديدة.
نحن نفكر بالكلمات؛ صوت داخلي يرافقنا في كل لحظة، وأي فكرة تفتقر إلى كلمات مناسبة قد تظل محاصرة في الظل، غير قادرة على التبلور أو الظهور.
وهكذا، تتحول اللغة من أداة للتوسيع إلى جدار يحجب عنا ما لا تستطيع أن تسميه. هذا القيد اللغوي يجعلنا نطرح سؤالًا عميقاً: هل يمكن لعقلنا أن يتجاوز حدود لغتنا، أم أننا محكومون بها في كل ما نفكر فيه ونشعر به؟
وإذا كانت اللغة قادرة على إعادة تشكيل احاسيسنا… فماذا بعد؟ .. فهل يمكن للإنسان أن يفكر بشيء لا توجد له كلمة؟ وإن لم يكن للكلمة وجود… هل للفكرة وجود حقيقي في عقولنا؟
في الفن والموسيقى مثلاً، يحاول البشر التعبير عن أشياء لا يمكن قولها بالكلمات.
الرموز، الإيماءات، واللغة البصرية جميعها محاولات لتوسيع نطاق التعبير خارج اللغة التقليدية.
حتى في المجالات العلمية، نجد محاولات لاستخدام رموز ومعادلات بدلًا من الكلمات، لأنها تُعبّر بشكل أدق عن مفاهيم معقدة يصعب وصفها بلغات البشر.
كل هذا يوحي بأن الإنسان يسعى – بوعي أو دون وعي – لكسر حدود اللغة، والتفكير خارج "قوالبها" المغلقة.
اللغة أداة عظيمة، لكن ليست بلا حدود. إنها تساعدنا على التفكير، وتنظيم العالم من حولنا، لكنها في الوقت ذاته قد تقيّد قدرتنا على الخروج من إطارها.
ربما التفكير الحقيقي يبدأ حين ندرك أن الكلمات لا تكفي دائمًا، وأن خلف اللغة… هناك عقل يحاول باستمرار أن يصل إلى ما هو أبعد.
كما قال الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين:
"حدود لغتي… هي حدود عالمي."
ريم العجمي
طالبة ماجستير لغويات.