السبت 28 سبتمبر 2024

مشاعر الزملاء

فهد بن علي العبودي
(طبتَ وطابت ذكراك أبا عبدالعزيز)
 
فهد بن علي العبودي
 
     لا تخلو أيام المرء من الأكدار التي تنغّص عيشه، وإن من أمَرّ هذه الأكدار طعمًا، وأعظمها خطبًا رحيلَ الرجال الذين امتلكوا في قلوب عارفيهم مكانًا؛ إذ تستوحش برحيلهم النفوس، كما تستوحش الديار برحيل آهليها. 
     كنت أتابع الرسائل في برنامج (الواتساب)، فتوقفتُ عند رسالة تنعى عبدالله بن مبارك اليوسف:
 
يا حامل  النبأ   الممقوت   معذرةً
هل أنت تجهل ما قد قلتَ أم واعِ؟
 
هل   ما  تناقلَه   الركبان   من   نبأٍ
حقٌّ   وإلا   عساه    وضع   وضّاعِ؟
 
     حملقتْ عيناي في الاسم الوارد فيها (عبدالله بن مبارك اليوسف)، أعدتُ النظر مرات؛ لا استبعادًا ولا تكذيبًا؛ فكل امرئٍ منا ينتظر يومه المحتوم في هذه الدار، نسأل الله حسن الخاتمة، وإنما كان ذلك ذهولًا من فاجعة الخبر، لا سيما أني لا أعلم عن خبر مرضه الذي أصابه قبل بضعة أشهر شيئًا، وقد كان آخر تواصل بيننا رسالة ابتدأني بها مهنئًا بعيد الفطر الماضي.
     أبو عبدالعزيز زميل عزيز منذ أيام الصبا، درسنا معًا في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلتين المتوسطة والثانوية بالمعهد العلمي في الدلم، وظل التواصل بيننا، يدأب ويسكن، ولكنّ الحبّ - يعلم الله - ساكنٌ في القلب منذ الأيام الأولى، وفي لحظة من لحظات سكون التواصل دوّى خبر نعيه، فما أفدحَ وقعَه! وما أوجع رجْعَه!
     فزّع نبأ وفاته أسرابَ الذكريات الساكنة في زوايا الذاكرة! هكذا تنثال أمام عينيك الذكريات الناضرة لمن تصلك به وشائج قربى أو صحبة أو محبة عند ورود نعيه! ولكن ما ظنُّك بعينين ساهمتين دامعتين قد كحلهما الشجا، وغمرهما الدمع، وران عليهما الشحوب؟ فأنى تَرَيان؟!
     عُرف شغفُ أبي عبدالعزيز بالحاسب الآلي في زمنٍ كان المهتمّون فيه من لِداته قلة، فكيف بالمُبرّزين والحاذقين؟ ولا إخالني مُجانِفًا الصواب إن قلتُ: إنه يفوق كثيرًا من المتخصصين في الحاسب الآلي، ومقدّمي الدورات التدريبية فيه، على أنه لم يحضر فيه دورة تدريبية واحدة حسب ما ذكر لي قديمًا، وإنما برع فيه بالممارسة الذاتية، والاستفادة من تجربة أخيه، الذي كان له أيضًا شغفٌ بالحاسب الآلي، وتجربة قديمة.
     أحسنَ لي كثيرًا أبو عبدالعزيز - أحسن الله إليه - أيام بداياتي في نظم الشعر، فكتب لي بعض قصائدي بالحاسب الآلي، وطرّزها بخطوط جميلة، اختارها للعناوين وللنصوص بذائقته (الحاسبية) الرفيعة، ما زلت أحتفظ بأوراق منها، تُبهج عين قارئها بحسن خطوطها، وجمال تنسيقها الشكليّ، وإن لم تُرْضِ ذائقته الأدبية. وأعرف أنه أفاد بعض الزملاء في هذا المجال، فقد كان باذلًا معارفه ومهاراته التقنية لمن جاءه أو سأله طالبًا المعلومة والفائدة.
     أبو عبدالعزيز ألِفَه من عرفَه، ومدحه من عمل أو تعاملَ معه، ما أطيب قلب ذلك الرجل! وما أنبل خلقه! فطوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له. 
 
ومن يمتلكْ خُلْقًا كريمًا يكن به
نفيسًا،  ومن يلؤمْ  فغيرُ  نفيسِ
 
     الطيّبون الذين عرفناهم في هذه الحياة، تصلنا ذكرياتهم وإن قطعت سبلَ تواصلنا بهم الدنيا بشؤونها وشجونها، تزورنا أحيانًا، وتَزّاور عنا حينًا، فنأنس بهم وبها. وربما زارتنا ذكرياتهم مُسلّيةً لنا إذا أصابتنا خيبةٌ من بعض اللؤماء وأخلاقهم، فكأني بها اكتسبت طيبًا من طيب أصحابها، فجاءت - دون علمهم أو بعد رحيلهم - معزّيةً لنفوسنا، ومُطبّبةً لجراحنا. وإن أبا عبدالعزيز من هؤلاء الطيبين الذين لن تبرح أذهانَنا ذكرياتهم، بل ربما نلجأ إلى استذكارها؛ لوذًا بها من لهيبٍ شبّ في جوانحنا؛ حنقًا من طبع ِلئيمٍ، أو حزنًا على اضمحلال خلقٍ كريم.
     رحم الله أخي الغالي أبا عبدالعزيز عبدالله بن مبارك اليوسف، وغفر له، وجعل ما أصابه رفعة لدرجاته، وتكفيرًا لسيئاته، وأحسن الله عزائي، وعزاء والده، وإخوته وأهله، وأصحابه وأحبابه فيه.
قيم هذا المحتوى
QR Code for https://np.psau.edu.sa/ar/news/2020/10/1604147095

تحويل التاريخ

التحويل من
التاريخ