الخميس 21 نوفمبر 2024

القـراءة المشتتـة

القـراءة المشتتـة

   هل صادف وفتحت تويتر أو انستغرام ووجدت الخط الزمني على شاشة هاتفك يمر سريعا باقتباسات متوالية: "احذر الاحتراق الوظيفي" ومن بعدها: " كن كالشمعة تحترق لتضيء للآخرين"، ثم اقتباس آخر: "إن جذر السعادة هو الإيثار"، يأتي بعده مباشرة: "كن أنانيا"، ومن بعده: "لا تكن أنانيا". أظن إننا جميعا حين نستخدم شبكات التواصل الاجتماعي سنقرأ هذه الاقتباسات سواء كنا راغبين أو مكرهين، لأنها رغما عنا ستمر في حدود إبصارنا حين نبحث عما نريد على تلك الشبكات. إلى أي مدى يمكن أن يتسع انتباه العقل البشري لهذه الاقتباسات المتناقضة والهاربة من سياقاتها. وهل يمكن أن تكون مثل هذه القراءة العابرة مفيدة، أو هي قراءة مؤذية؟

  يتمثل فعل القراءة في القدرة على تفسير الرموز المكتوبة وفهم دلالتها بارتباطها مع بقية الرموز اللغوية وغير اللغوية؛ فالقراءة عملية يحول فيها القارئ الكلمات إلى عناصر دالة. وتتأثر القراءة بالسياق الثقافي للقارئ. ومعنى الكلام المكتوب اليوم لا يصنعه الكاتب والقارئ فقط؛ بل يشارك في صناعته الناشر والخط الزمني الذي يظهر فيه الاقتباس، والأحداث المتزامنة مع نشر ذلك الاقتباس. وهكذا تفرض القراءة الجديدة نفسها باعتبارها جزءا مهما من الثقافة المعاصرة.

   ولأن الكلمات تستخدم للتأثير وليست فقط للإخبار. نتأثر حين نتلقى المقروء خارج سياق بنية النص الكبرى. حيث مئات الكلمات التي تواجه المرء كل يوم، من معلومات قد تهمه ومعلومات لاتهمه، يقرؤها يوميا قصدا أو من غير قصد، على شبكات التواصل الاجتماعية. هي في حقيقة الأمر معلومات كثيفة؛ ولكنها فتات من معلومات متفرقة اُنتزعت من سياقاتها في كتبها وتناقلها الناشرون على سياق صفحاتهم. وبالتالي تؤثر في المتلقي بشكل سلبي أحيانا كثيرة؛ لأنها قد تصله ناقصة أو مشوهة. هل يكون فعل القراءة هنا مؤذيا؟ حين يأخذ القارئ المعلومة بسطحيتها، أو حين تكون في سياق يمنحها معنى آخر.

  على سبيل المثال الاقتباس المنسوب لايكارت تول: "كل مرض نفسي ينشأ عند الأشخاص المستمعين للحديث الداخلي ". والمؤلف هنا ليس متخصصا في الطب النفسي ولا في علم النفس؛ هو يحكي تجربته الذاتية وتأثيرها على مجموعة من الطلاب. والاقتباس فعليا من كتاب يؤكد فيه المؤلف في بدايته أنه حالما تبدأ بقراءة الكتاب، لن تبدو لك معاني بعض الكلمات واضحة في البداية. فقط استمر وتابع القراءة. فالخلل أحيانا ليس في المقولة التي نكررها وإنما في انتزاعها من السياق الذي يجعلها مناسبة للوضع الذي تقال فيه. ومثال آخر من اقتباسات (مواعظ تطوير الذات): "مهما حدث لك في الحياة، كن قويًا ومتماسكًا، وتصرف كما لو أن كل شيء على ما يرام، الجدران القوية قد تهتز ولكنها لا تسقط"؛ مقولات معلبة مكررة مثل هذه المقولة تأخذ منك أكثر مما تعطيك؛ فماذا أفعل لو سقطت الجدران؟ ماذا لو لم يكن لدي جدران أصلا! كيف أصنع إذا لم أكن بالفعل متماسكا، وليس كل شيء على مايرام؟ فأنا إنسان على كل حال. كل هذا العبء يلقيه عليك هذا الاقتباس العابر. ومهما كانت درجة الوعي لديك ستتأثر بالتكرار وانطلاق الكلمات التي ستخترق دماغك ومشاعرك كل يوم، كلمات تخوفك من تفكيرك، وكلمات تستفزك لأشياء لا تستطيع فعلها، لأنك عاجز عنها، أو منشغل بأشياء أخرى عنها.

   إن القراءة التي لا تتجاوز الاقتباسات اليتيمة تعود بنا إلى مجتمع يشبه المجتمع الشفاهي الذي يتشكل وفق المقولات الجاهزة، والأمثال الشعبية، وأحاديث المجالس العابرة. وقد يبدو لنا إننا نقرأ اقتباسات متنوعة من عشرات الكتب في وقت وجيز، ولكن حقيقة الأمر أن وقتنا ضاع في قراءة اقتباسات ومنشورات متفرقة فقدت معناها بعد نزعها من سياقاتها؛ وبالتالي لم نقرأ أي كتاب. في قراءة الكتب يكون انتباه القارئ حاضرا بالكامل، وتركيزه على مسار محدد من المعلومات المترابطة حول موضوع واحد يشرحه الكتاب؛ فلا يتركك الكتاب ضائعا، أو يرمي لك معلومة يصدمك بها بدون تمهيد، أو يعرض لك حكاية بدون خاتمة، أو خاتمة بدون بداية.

    يفترض أن تكون القراءة عاملا أساسيا لتطوير مفرداتنا ومفاهيمنا، وشيئا يساعدنا على الاسترخاء واكتساب المعرفة. ولكن القراءة بمفهومها اليوم على الشبكات الاجتماعية هي قراءة مؤذية، لأنها تزيد من مستوى توترنا. وحين نقرأ المنشورات أو الاقتباسات المتدفقة بشكل مستمر على شبكات التواصل الاجتماعي، تكون مصدرا مستمرا لتشتيت الانتباه، وفقدان التركيز؛ فالدماغ يتأثر في تنظيمه، وفي وظائفه، ليتلاءم مع سيل النصوص القصيرة المنهمرة عليه من الشبكات الاجتماعية. ويشكل تشتيت الانتباه بين معلومات ونصائح مقتبسة ينقض بعضها الآخر عبئا زائدا على الدماغ البشري الذي يلجأ إلى معالجة كميات متزايدة من المعلومات في أقصر فترة ممكنة. ويرى (ريتشارد ريستاك) في كتابه (الدماغ الجديد: كيف يعيد العصر الجديد صياغة العقل) أن زيادة المعلومات التي يتلقاها الدماغ في الوحدة الزمنية الواحدة قد يؤدي بنا إلى اضطراب قصور الانتباه. وهنا نجد أنفسنا أمام قراءة مشتتة تصرفنا عن القراءة!.

  لابد من إعادة النظر في أنماط القراءة اليوم وتوجيه عاداتنا القرائية بما يتوافق مع التقنيات الجديدة لنشر المقروء، أن نبتكر لنا طرقنا الخاصة في القراءة الجديدة التي تجعلنا ندرك أهمية تأثير الكلمات فينا، فالكلمات ليست أدوات لإيصال المعلومات فقط؛ وإنما أفعال تؤدي إلى آثار ونتائج. حين ينقل الناشر اقتباسا بأن تفعل شيئا. فهو يدفعك للقيام به. وحين ينقل اقتباسا يصدر فيه حكما على موضوع ما قد يقنعك به. ومن هنا ندرك قوة الكلمات وسلطتها في التأثير على المتلقي. خاصة إذا ذيّل الاقتباس باسم شخص له مكانة مهمة عند القارئ. ولكي تكون القراءة فعالة ومفيدة وممتعة وعاملا مساعدا للمعرفة العميقة، ينبغي أن تكون في نص متكامل يجعل من القراءة سلوكا مهما للاسترخاء والتعلم ببطء. و قراءة الكتاب الجيد الذي يثير اهتمامك هي الطريق الأمثل لذلك.

 

قيم هذا المحتوى
QR Code for https://np.psau.edu.sa/ar/article/2022/08/1660208689

تحويل التاريخ

التحويل من
التاريخ