الخميس 21 نوفمبر 2024

لغة الحضارة والسلام: اللغة العربية

 إن اللغة هي الإنسان، وما يحدث للإنسان من تطور أو غنى أو فقر يمكن أن يحدث للغة. واللغة لا تتطور بصورة مستقلة عن البشر.  فاللغة المنفتحة على الآخر، المعتدلة في قوانينها هي ذاتها الإنسان المنفتح على الآخر المعتدل في تصوراته ومواقفه. وتأتي أهمية اللغة عند البشر ليس من كونها وسيلة التواصل الأهم فقط؛ بل لكونها المستودع الذي يذخر بمخزون الثقافات والحضارات التي تنتقل عبر الزمان والمكان. ولأنها الأداة الأساسية التي يتحقق بها التعاون بين بني البشر. يقول ابن حزم في سياق حديثه عن أهمية اللغة:" لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام "، فبالرغم من أهميتها إلا إنها تحمل في ذاتها الخطر دائما فهي على حد وصف هايدغر "أخطر النعم".  لأن اللغة التي نتحدثها تعبر عن هويتنا، وتسهم بشكل مباشر في تعريفنا من خلال تواصلنا بها مع الآخرين.  وبقاء اللغة التي تمثل هوية ما يعني بقاء النوع الناطق بها. وإذا فقد المجتمع لغته فقد أهم عاملا يصون ثقافته ويحفظها. واللغة العربية هي المكون الأساسي للفرد العربي، فلا وجود للعرب بدون اللغة العربية.

أهمية اللغة العربية:

تحضر اللغة العربية اليوم على فضاء العالم الرقمي في المرتبة الرابعة من بين أكثر اللغات استخداما على صفحات الويب في إحصائية نشرتها  (2020-Internet World Stats) بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية على التوالي. ويحتفل العالم اليوم باللغة العربية تحت عنوان: "اللغة العربية والتواصل الحضاري" لإبراز أهمية اللغة العربية في مد جسور السلام بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات. ولكي تكون اللغة العربية عاملا أساسيا في مد جسور التواصل بين الأمم وتقوية العلاقات بين الشعوب وتقريب الرؤى ووجهات النظر؛ لابد أن تحترم تنوع اللهجات الموجود داخل اللغة العربية ذاتها. فالحوار مع الآخر الداخلي هو التواصل الذي ينبغي أن نبدأ به أولا، ثم الحوار مع آخر خارجي نمد الجسور بيننا وبينه عبر الترجمة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية.

   تستمد اللغة العربية قوتها من قوة الناطقين بها؛ كما تستمد قوتها من انفتاحها على ثقافة الآخر، واستيعابها لمفاهيمه ومفرداته وألفاظه. وهي القوة التي تحافظ على بقاء الهوية العربية. وتقع اللغة العربية في المرتبة الخامسة وفقا لعدد المتحدثين بها؛ وذلك بعد اللغة الصينية في المرتبة الأولى، واللغة الإسبانية في المرتبة الثانية، واللغة الإنجليزية في المرتبة الثالثة، واللغة الهندية في المرتبة الرابعة. حيث يبلغ عدد الناطقين باللغة العربية اليوم بصفتها لغتهم الأم 315 مليونا. واللغة العربية واحدة من ست لغات رسمية للأمم المتحدة. ولأن اللغة تزداد أهميتها بمكانتها  بين اللغات الأخرى فالسبيل الأمثل للإبقاء على مجال للحوار والتواصل بين الحضارات لا يتحقق من إجماع الناس جميعا على لغة واحدة؛ وإنما يكون في وفرة التنوع اللغوي وتعدد اللغات.

اللغة العربية والهوية الوطنية:

تؤدي اللغة دورا رئيسا في بناء الثقافات والحضارات. وقد أدت اللغة العربية دورا محوريا في بناء رؤية المملكة العربية السعودية التي بدأت بكلمات أعلنت في وثيقة تحولت على أرض الواقع في مشاريع متحققة. وتعد القدرة على التحدث باللغة العربية مكونا أساسيا من المكونات الأساسية للهوية الوطنية السعودية؛ ذلك أن اللغة العربية جزء من تركيب المواطن السعودي، تشكّل وجدانه وتوجه تفكيره. وإذ تؤكد رؤية المملكة العربية السعودية على أن السعودية هي العمق العربي والإسلامي ومحور ربط للقارات الثلاث. فقد وضعت الرؤية حجر الأساس بتحديد ثلاثة محاور رئيسة، من أهم أهدافها في المستوى الأول؛ تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية، ونصت على العناية بصورة خاصة باللغة العربية.

 ومن ركائز الثقافة في المملكة دعم ورعاية وتطوير اللغة والترجمة، والمسرح والأفلام، والأدب، والكتب والنشر، التي تعتمد بصورة أساسية على اللغة بصفتها المكون الأساسي لأيّ إنتاج ثقافي يخدم تلك المجالات. وقد أطلقت وزارة الثقافة 27 مبادرة ثقافية من أبرزها مجمع الملك سلمان للغة العربية فــي ســبتمبر 2020م، الذي يسعى أن يكون مرجعيـة عالميـة مـن خـلال نشـر اللغـة العربيـة وحمايتها، ودعم بحوثها وكتبهـا المتخصصة، وتطبيقاتهـا اللغويــة الحديثــة، والإسهام فـي خلـق مسـارات جديـدة فـي القطـاع الثقافـي مـن خلال أدواره المرتبطـة باللغـة العربيـة.

اللغة العربية وحوار الحضارات:

                تتكون الحضارة من المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل هذه المكونات تتشكل عبر منظار اللغة. والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع في أغلبها تنتقل له عبر لغته الأم. فاللغة العربية هي الأداة التي نستطيع من خلالها أن نبني مفاهيم السلام الخاصة بنا. ونستطيع أن نحقق وجودنا بالإنتاج الأدبي العربي الذي يمثل رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. أما حوار الحضارات في اللغة العربية فهو فعل ثقافي يتجلى بشكل مباشر في الترجمة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية حيث تؤمّن الترجمة حق الآخر في الاختلاف وتعزز التعددية الثقافية. وتمد جسور التسامح بين الحضارات.

لقد أثبتت الترجمة على مر العصور أنها أقوى وسيلة تسمح للأفكار بالانتقال من حضارة إلى أخرى، وقد كان ذلك في الحضارة العربية حين بدأت الاستماع للحضارات الأخرى عبر الترجمة. فظهر حوار الحضارات في أفضل صوره المؤثرة في الإنتاج الفلسفي والأدبي المترجم من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية. يقول الجاحظ عن أثر الترجمة في اللغة العربية، وعلو مكانة المترجمين على الخطباء والبلغاء: " ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء. وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكلّ خلف، وقدوة لكل تابع"؛ وفي ذلك إشارة مباشرة إلى أن الترجمة من المصادر المهمة التي تصنع اللغة بها المعاني الجديدة، وتلتقي من خلالها الحضارات المختلفة فتعطي إحداهما المعنى الجديد وترتدي من الأخرى اللفظ الذي يلائم معناها. وتستقبلها اللغة بلفظها ومعناها الجديد مصطلحا تستضيفه ضمن مفرداتها، وتعترف بها كلمة جديدة عبر استخدام الأجيال اللاحقة لها.

 

وختاما؛ إن أفضل خدمة نقدمها للغة العربية اليوم هي صناعة المحتوى الرقمي الناطق باللغة العربية؛ لأن إثراء المحتوى العربي على الإنترنت ليس مسؤولية الدول والمؤسسات فحسب وإنما مسؤولية كل فرد عربي يستطيع صناعة محتوى عربي على أي منصة إلكترونية، ففي لمسة الفنان والشاعر والكاتب نصنع الحوار الحقيقي الفعال الذي تسقط في الحواجز ويرتبط الناس فيه في حوار داخل اللغة ذاتها من جانب، ومع اللغات الأخرى من جانب آخر.

أستاذ اللسانيات المشارك - قسم اللغة العربية

قيم هذا المحتوى
QR Code for https://np.psau.edu.sa/ar/article/2021/12/1640755907

تحويل التاريخ

التحويل من
التاريخ