ماذا يعني (وطن)؟ طفل يسأل والوطن يجيب.
هل نستطيع الإجابة عن التساؤل البسيط الذي ربما يطرحه أحد أطفالنا. (ماذا يعني الوطن؟) هل يمكننا أن نشير إلى صورة لخريطة المملكة العربية السعودية ونقول له هذا هو وطننا. أو نقول: هذا ما يسمى (الوطن). أو أن نشرح له بأن الوطن هو منزله، ومنزل جاره، والحي الذي يسكن فيه فقط. على حد التعريف اللغوي للوطن في المعاجم القديمة. أو نخبره أن الوطن هو كل ما يراه صباحا حين يخرج إلى المدرسة، في الطريق المعبد، وفي نظام المرور، وفي المدرسة والجامعة والمسجد، وفي القوانين المنظمة التي تحمينا وتسهل أمور حياتنا .. سؤال يبدو بهذه البساطة الشديدة. تتعذر إجابته ويصعب علينا تحديد إجابة دقيقة له أو صياغة تعريف مناسب وواضح لمفهوم الوطن. إننا لا نستطيع أن نبدأ أي حديث حول حب الوطن أو المواطنة أو الشعور بالانتماء للوطن، قبل أن نتفق على تعريف محدد للوطن أولا. يقول فتغنشتاين: "إننا نسمي الأشياء ثم نستطيع الكلام عنها" علينا أن نعرف الصورة الذهنية التي تحدث في عقول أبنائنا أولا حين نتكلم معهم عن الوطن. والتصور أو الخيال المرئي من نوع ما والمرتبط بكلمة (الوطن).
تحرير المفاهيم
قال الخليل عن الوطن: " موطن الإنسان ومحله .. ويقال: أوطن فلان أرض كذا، أي: اتخذها محلا ومسكنا يقيم بها ... والموطن: كل مكان قام به الإنسان لأمر". ويعرف رفاعة الطهطاوي الوطن في لغة أدبية فيقول: "عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، ورباه نسيمه وحلت عنه التمائم فيه".
الوطن المكان الذي يولد ويقيم فيه الإنسان مع جماعة من الناس يربطه بهم التاريخ والحدود الجغرافية والمصالح المشتركة والشعور بالانتماء إلى المكان أمر فطري؛ ولكن لا يدعم هذا الانتماء ويعززه إلا الشعور بأن هذا الكيان يحمي الإنسان. ويسهل عليه أمور حياته. ويكفل له حقوقه في مقابل ما يلزمه نحوه من واجبات. وتلك المزايا التي يتميز بها ويراها بشكل محسوس في كل مكان على أرض وطنه لا يمكن أن يمنحها له كيان آخر. إن أهمية اللغة لا تعني تشكيل معاني الكلمات خارج إطار الواقع. تشكيل المفاهيم وتحديد المعاني يبدأ بالواقع أولا ثم تمتلئ به الكلمات لاحقا. وحينما يسمع أو يقرأ المتلقي هذه الكلمات يستدعي ذهنه كل الحمولات الدلالية المتعلقة بهذه الكلمة. وهنا نسأل أنفسنا ما الحمولات الدلالية التي يستدعيها عقل المواطن السعودي حينما يقال له: (السعودية) حينما نقول له كلمة: (وطن). قد يحضر هنا المعنى الشعري للوطن الذي تغذينا به ومنه. وتغنينا به منذ الطفولة، "روحي وما ملكت يداي فداه ... وطني الحبيب وهل أحب سواه" أو "حنا هلك يا دارنا برد وهجير" أو "بلادي بلادي منار الهدى". حضور الوطن في هذه الكلمات ينضح حبا وولاء. إن الوصول إلى المشاعر وغرس المفاهيم المتعلقة بالوطن وتنميتها لا يمكن أن يكون عبر نقل المعلومات في مقررات التعليم، أو بترديد الأغاني الوطنية فقط. غرس المفاهيم وتنمية المشاعر يكون بالسلوك والممارسات اليومية التي يراها النشء كل يوم في حياتهم. في الشارع والمنزل والمدرسة والمستشفى والحديقة والمسجد.
بناء الثقة
لا يمكن أن نحمي قيمنا ومبادئنا وأوطاننا إلا بالبناء والتأسيس. وبناء المفاهيم يتم بالمعرفة، والولاء يبنى بالثقة. والانتماء ينغرس وينمو بالرعاية وتعهد العناية والاستمرار بالاهتمام. الوطن والوطنية والانتماء الوطني ينبغي ألا تكون مجرد ألفاظ أو شعارات نكررها أو نتغنى بها دون أن ترتبط دلالتها العميقة التي تتأصل بالحس في نفوس الناشئة قبل الشباب. وذلك دور التعليم.
إن الوطن الحقيقي له رؤية متماسكة وخطاب واضح يتمكن من بناء مفهوم متكامل المعالم لفكرة الوطن الذي يمثل رمز وحدة شعب يختلفون في أطيافهم وآرائهم، مع حفظ كل هذه الانتماءات تحت نظام واحد وعلى أرض واحدة. حين يتكون معنى الوطن في أذهاننا من هذه المكونات يستطيع الفرد أن يفهم الوطن في صورته المعاصرة ويحب نظامه السياسي مثلما يحب أرضه ويترجم ذلك الحب إلى ولاء.
انتماء وولاء
يختلف مفهوم الانتماء الوطني عن الولاء الوطني. فالانتماء الوطني حاجة نفسية اجتماعية أساسية عامة لدى الإنسان، تمثل المستوى الأعمق للولاء من الناحية السيكولوجية. والانتماء مفهوم أضيق في معناه من الولاء. والولاء الوطني جملة المشاعر والأحاسيس والسلوكيات الإيجابية التي يحملها الفرد تجاه وطنه والتي تتجسد في الحب والمسؤولية والبذل والعطاء والتضحية من أجل نصرة الوطن ورفعته. والولاء في مفهومه الواسع يتضمن الانتماء فلن يحب الفرد الوطن ويعمل على نصرته والتضحية من أجله إلا إذا كان هناك ما يربطه به. أما الانتماء فلا يتضمن بالضرورة الولاء.
إن الشعور بالانتماء الوطني تحدده علاقة الفرد بفكرة الدولة بشكل رئيس. والهوية المدنية مصونة بالحقوق التي تسبغها الدولة، وبالواجبات التي يؤديها المواطنون. الذين هم أشخاص مستقلون ومتساوون في أوضاعهم الشرعية. ولا يتعارض الانتماء الوطني مع الانتماءات المتعددة الأخرى للفرد مثل الانتماء للدين أو القبيلة أو الطائفة، بل إن الانتماء الوطني هو الذي يتكفل بحماية الانتماءات المختلفة في ظل نظام يحكم بالشريعة الإسلامية. والتربية الوطنية التي هي من أهم أهداف التعليم في أي دولة هي تربية سياسية تحتوي على مجموعة من القيم التي يتدرب عليها المعلم والأستاذ تدريبا جيدا وتنتقل للطلاب عبر أنشطة وسلوك وممارسات فعلية. وقد نصت المادة الثالثة عشرة في النظام الأساسي للحكم على أن التعليم يهدف إلى "غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم محبين لوطنهم معتزين بتاريخه". ويؤكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـــ حفظه الله ـــ في إحدى كلماته أن المملكة العربية السعودية قامت دعائمها على "التمسك بالشريعة الإسلامية التي دعت لحفظ حقوق الإنسان وحمايتها، وقام الحكم في بلادنا على أساس العدل والشورى والمساواة. إن أنظمة الدولة تتكامل في صيانة الحقوق، وتحقيق العدل، وكفالة حرية التعبير، والتصدي لأسباب التفرقة ودواعيها، وعدم التمييز، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات، ولقد نص النظام الأساسي للحكم على أن تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية".
مفتاح التربية الوطنية
إن الانتماء الوطني يتعزز حينما يكون النظام محكم البناء. حينما تقدم برامج تربوية وطنية تنمي في الفرد احترام هذا النظام و"مفتاح التربية الوطنية يكمن في التركيز على السلوك، ولا يصبح المواطنون صالحين بمجرد تلقيهم المعلومات فقط، بل يحتاج التلميذ إلى الانهماك الفعلي في العملية الوطنية" وقد "أجرى داينسن (Dynneson, 1992) دراسة بعنوان "ماذا تعني المواطنة الفعالة عند الطلاب؟" وذلك في عام 1987 في الولايات المتحدة الأمريكية. وأظهرت الدراسة أن أهم خصائص المواطنة الصالحة التي يجب التركيز عليها في تدريس التربية الوطنية هي: معرفة الأحداث الجارية، والمشاركة في شؤون المجتمع والمدرسة، وقبول المسؤولية التي يكلف بها الفرد، والاهتمام بشؤون الآخرين، والالتزام بالسلوك الحميد والأخلاق الجيدة، والتقبل للسلطة بناء على الشرعية والصلاحيات التي تخدم المجتمع، والقدرة على مناقشة الأفكار والآراء، والقدرة على اتخاذ القرار الحكيم، ومعرفة الحكومة وأنظمتها ولوائحها، وإيجاد روح حب الوطن".
إضافة إلى ذلك تستطيع الجامعات صناعة مفاهيم الولاء والانتماء الوطني وتحويل الولاء من محيط الطالب الجامعي المحدود إلى المحيط الاجتماعي الواسع. ويمكن تعزيز شعور الانتماء في التعليم الجامعي بالالتزام بمبادئ وقيم معلنة تتشارك فيها إدارة الجامعة مع الطلاب والطالبات والمجتمع المحلي وسوق العمل. إن قيام الجامعات بدورها بصورة واقعية منسجمة مع السياق العالمي. وطرح كل القضايا الوطنية بشفافية تامة يعزز الانتماء، فتعزيز الانتماء لا يعني المثالية والتعالي عن الواقع. لا يمكن هدم المفاهيم الخاطئة أو المعوجة إلا من خلال بناء وإحلال مفاهيم وقيم قوية. فالهدم دون بناء حتى إن كان هدما لمفاهيم مغلوطة لا ينتج عنه إلا الفوضى والضياع.