الأحد 22 ديسمبر 2024

العربية .. ثقافة وهوية

العربية .. ثقافة وهوية

الحمد لله القائل في محكم التنزيل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، والصلاة والسلام على خير الأنام النبي محمد الأمين القائل:(أنا أفصح العرب بيد أني من قريش

وبعد :

فإن بنت عدنان لغة بهية الطلعة، سائغة الشراب، دانية القطوف، ربطت بين أهلها بعد رباط العقيدة المتين، فكانت لغة لكتاب الله العزيز، حفظها القرآن من الضعف، كما حفظها من الضياع, بقيت على مرور الزمن شابة فتية، لا تهرم ولا تشيخ، لغة تُجملها البلاغة، ويضبط إيقاعها النحو، ويزن مفرداتها الصرف، وتطيب نفوس اللغات الأخرى بذكاء أدبها، وعبير مجازها، كساها القرآن حللاً من البريق، فغدت دارة علياء، وساحة فيحاء، تعالت بها القيم، وتسامت بها الأخلاق، ولكنها في هذا الزمان أصبحت تشكو الغربة في دارها، وبين أهلها، بعد أن هجرها قومها إلى لغة أخرى لم تتصل براوٍ أو رواية، لغة سرت فيها لوثة الفرنجة، ولُكنة الغرب كسريان السم الزعاف في الماء العذب الفرات، فتغير اللسان العربي الفصيح إلى لسان مُعْوج كسيح، ومعلوم من قديم أن اللسان العربي هو شعار الإسلام، يقول في ذلك ابن تيمية: "وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة  القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله وللرجل مع صاحبه ... فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم"، ويقول في موضع آخر "فإن اللغة العربية نفسها من الدين، ومعرفتها فرض وواجب"، وقديمًا كره الإمام الشافعي لمن يعرف العربية أن يُسمَي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطًا بالعجمة، وصدق من قال:
    إن الذي ملأ اللغات محاسنا              جعل الجمالَ وسره في الضاد
ومن مظاهر غربة العربية في دارها, وجناية أهلها عليها, ما نراه وما نشاهده من مزاحمة بعض الأسماء الأجنبية للأسماء العربية في الإعلانات واللافتات, واللوحات المعلقة على واجهات المحلات التجارية, وكثرة المصطلحات المجلوبة من لغات أخرى, وقد يقول قائل: إن العرب الأوائل لما نقلوا كتب الأعاجم إلى لغتهم أدخلوا كثيرا من الألفاظ العلمية والاصطلاحية من لغات أجنبية, فلماذا علينا أن نكون أغير على العربية من أصحابها الأولين؟ نقول إن ناقلي كتب الأعاجم من الأقدمين فريقان : فريق عارف بالعربية، وطرائقها ,وأساليبها, وشعابها, وفريق لا يعرف منها إلا القواعد العامة الكافية لإصلاح كلامه, وتخليصه من شوائب الخطأ والخطل، فالطائفة الأولى لم تدخل في العربية من ألفاظ العجم إلا القليل الذي لا مندوحة عنه، وأما الفريق الآخر فلا يكاد يكلف نفسه عناء في إيجاد الألفاظ العربية المقابلة للأعجمية, وهؤلاء سار على دربهم مثقفو هذا الزمان من أهل العربية، فتعلق بعضهم باللغات الأجنبية ليس من أجل المعرفة, فإننا لا ننكر على طالبي المعرفة ذلك، وإنما نقصد الذين يرون فيها صورة من صور العزة والكمال، لذا أصبحوا يعتزون باللغة الأجنبية اعتزازًا يجعل العربية تغار من ذلك، وهي محقة فيه، إذ هي البحر في أحشائه الدر كامن، ولكنهم لم يسألوا الغواص عن صدفاته، ويظن بعضهم أن هجر بنت عدنان والتخاطب بغيرها من لغات العجم نوع من الثقافة والتطور، وإذا علمنا أن مفهوم الثقافة في أدنى حدوده يعني الإبداع الأدبي والإنتاج الفكري بأنواعه كافة, فإن العربية وبهذا المفهوم لا يشق لها غبار, فهي من بدايات ابن خذام في الجاهلية الأولى, بل منذ أن تشققت العربية على ألسنة أبناء إسماعيل وهي ترفد الثقافة بمفهومها العام بما لم ترفدها به أية لغة من لغات العالم، الأمر الذي جعلها الأعلى كعبًا، والأعرق مقدمًا، وعصر المأمون يشهد على ذلك، وبهذا فالعربية ثقافة، بل هوية أيضاً، فقد ورد في جامع الأحاديث "ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم, وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي"، ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد هجمت على العربية جيوش  العامية،  دهمتها لغة الصحافة, وهذان يحملان جملة من الأخطاء الجسيمة والمخالفات اللغوية في التحرير والقول والخطاب. ومن هنا بدأت ألفاظ العربية
الفصيحة تتوارى في الزوايا؛ لتحل محلها ألفاظ عامية لا ضرورة  لها،  وقد شاع الخطأ، وعم المعدول عن أصله من اللغة العربية، حتى غدا الفصيح الذي يدرج به المعربون غريبًا، وصاحبه من أهل التفاصح والمبالغة، وكأنه يعيش في غير دنيا الناس، فهانت العربية على أهلها، وذُلّ قومها، وبُليت محاسنها، فعزُّ القوم من عزِّ لغتهم، وصدق حافظ إذ يقول:

أرى لرجال الغرب عِزّا ومنعة                 وكم عَزّ أقوام بعز لغات

 

قيم هذا المحتوى
QR Code for https://np.psau.edu.sa/ar/article/2017/01/1483338640

تحويل التاريخ

التحويل من
التاريخ