تولي المملكة العربية السعودية وحكومتها الرشيدة المجال الصحي اهتمامًا بالغًا، ومع اقتراب الأسبوع العالمي للتوعية بمقاومة المضادات الميكروبية، الذي يُعقد في شهر نوفمبر من كل عام، كان لا بد من إظهار ذلك الحدث وتسليط الضوء عليه محليًا، وداخل أروقة الجامعة، وبين العاملين في المجال الصحي، على هذا الموضوع البالغ الأهمية. كما نوضح الجديد في هذا المجال وكيف تتنامى مقاومة المضادات الميكروبية ببطء في صمت، وقد أصبح ذلك أمرًا مخيفًا.
ما هي مضادات الميكروبات؟
مضادات الميكروبات، ومنها المضادات الحيوية، ومضادات الفيروسات، ومضادات الفطريات، ومضادات الطفيليات، هي أدوية تُستخدم لمنع وعلاج العدوى التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات.
وحسب تصريح منظمة الصحة العالمية، فإن بعض العلماء يرون أن هذه المصطلحات يجب تغييرها لأسباب علمية وجيهة.
وتُعرّف المضادات الحيوية بأنها مركّبات تُنتجها الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفطريات، أو قد تُصنع أو تُحوَّل كيميائيًا، وهي قادرة بتراكيز منخفضة على قتل أو إيقاف نشاط ونمو الميكروبات الضارة دون ضرر يُذكر على الإنسان أو الحيوان.
ما هي مقاومة مضادات الميكروبات؟
تنشأ مقاومة مضادات الميكروبات عندما تطرأ تغيّرات على البكتيريا أو الفطريات أو الطفيليات بمرور الوقت، وتصبح غير مستجيبة لمضادات الميكروبات الدوائية، مما يجعل علاج حالات العدوى أكثر صعوبة، ويزيد من خطر انتشار الأمراض والاعتلالات الوخيمة والوفيات.
وتحدث مقاومة المضادات الحيوية خصوصًا عندما تُغيّر الميكروبات نفسها أو تكتسب صفة المقاومة من ميكروب آخر مقاوم لتلك المضادات، ثم تُورَّث جينات المقاومة للأجيال الجديدة، أو عن طريق مشاركة أجزاء من المادة الوراثية التي تحمل جينات المقاومة مع أنواع أخرى من البكتيريا الحساسة في نفس العائلة أو في عائلات ميكروبية أخرى بطرق مختلفة.
لذا تتزايد باطراد صعوبة علاج حالات العدوى، وقد يستحيل علاجها. وتواجه المستشفيات في جميع أنحاء العالم ارتفاعًا مقلقًا في الإصابات الشائعة التي لم يعد من الممكن علاجها بالمضادات الحيوية.
إن مقاومة المضادات الميكروبية ليست تهديدًا مستقبليًا، بل إنها كارثة صحية عالمية في الوقت الحاضر.
كانت مقاومة المضادات الميكروبية مسؤولة بشكل مباشر عن 1.27 مليون حالة وفاة على مستوى العالم في عام 2019، وساهمت في ما يقرب من 5 ملايين حالة وفاة أخرى.
ويكشف تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2025 أن الوضع يتدهور بسرعة؛ فبين عامي 2018 و2023، ارتفعت مقاومة المضادات الحيوية في أكثر من 40% من مسببات الأمراض والمضادات الحيوية التي تم رصدها، مع زيادة سنوية متوسطة تتراوح بين 5-15%.
ووفقًا لتصريحات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، فإن مقاومة المضادات الميكروبية تتقدّم على تقدّم الطب الحديث، مما يهدد صحة البشر في جميع أنحاء العالم. ومع استمرار ارتفاع مقاومة المضادات الحيوية، فإننا نفقد خيارات العلاج ونعرض الأرواح للخطر.
وتشير أيضًا بعض البيانات المقلقة إلى ارتفاع مقاومة الإيكولاي (E. coli) للجيل الثالث من السيفالوسبورينات من 23.8% عام 2021 إلى 26.7% عام 2023.
وبالنسبة لـ الكلبسيلا (Klebsiella pneumoniae)، ارتفعت المقاومة لنفس هذه الأدوية من 52.7% إلى 55.2% بين عامي 2018 و2023.
وتُعدّ هذه البكتيريا أحد أسباب إصابات مجرى الدم الميكروبية، التي غالبًا ما تؤدي إلى فشل الأعضاء والوفاة. كما أن المقاومة للمضادات الحيوية الحرجة ذات الخيار الثاني، بما في ذلك الكاربابينيمات والفلوروكوينولونات، آخذة في الارتفاع أيضًا.
فمقاومة الكاربابينيم – على سبيل المثال – كانت نادرة ذات يوم، أما الآن فهي في طريقها لفقدان فعاليتها ضد العديد من البكتيريا المسببة للأمراض، مما يضيّق خيارات العلاج.
كيف وصلنا إلى هذا الحد المخيف؟
تطور البكتيريا لمقاومة المضادات الحيوية هو عملية بيولوجية قد تحدث بطريقة تلقائية، لكن البشر عجلوا بها بشكل كبير.
يُعدّ إساءة استخدام المضادات الميكروبية والإفراط في استخدامها في علاج الإنسان أو في تربية الحيوانات، وأيضًا إساءة استخدام المبيدات الزراعية في إنتاج المحاصيل، من الأسباب الأساسية.
بالإضافة إلى الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، أو عدم إكمال الجرعات، أو عدم الالتزام بمواعيدها، أو استخدامها بدون وصفة طبية (وهذا ما منعته وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية منذ سنوات).
وفوق كل ذلك، هناك الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية (المضادة للبكتيريا) ضد الفيروسات مثل الإنفلونزا، التي لا تكون فعالة ضدها، بل قد تُفاقم المشكلة الصحية.
وليس استخدام المبيدات في المجال الزراعي وحده سببًا، بل أيضًا إساءة الاستخدام في تربية الحيوانات، ففي بعض البلدان تُستخدم المضادات الحيوية بشكل روتيني لتعزيز النمو في الحيوانات السليمة، مع العلم أن الجرعات قد تكون أضعاف الكميات التي يُعالج بها البشر، مما قد يؤدي إلى انتقال السلالات المقاومة إلى الإنسان.
ومن ناحية أخرى، تنحّت بعض شركات الأدوية عن تطوير أو البحث عن مضادات حيوية جديدة، لأنه أصبح تحديًا علميًا وغير مجدٍ اقتصاديًا؛ إذ تُستخدم معظم المضادات الحيوية بشكل مقتصد ولفترات قصيرة، على عكس أدوية الأمراض المزمنة التي تضمن تدفقات إيرادات ثابتة.
وتتفاقم المقاومة بشكل خاص في المناطق التي تفتقر فيها النظم الصحية إلى القدرة على التشخيص والعلاج السليمين، مما يشير إلى أهمية الوعي المجتمعي بهذا الموضوع.
استراتيجيات الوقاية
تبقى تدابير الوقاية البسيطة ذات أهمية كبيرة في المعركة ضد مقاومة المضادات الميكروبية، مثل:
• نظافة اليدين (غسل اليدين بانتظام).
• أخذ اللقاح (ضد بعض الفيروسات مثل الإنفلونزا، مما يقلل من نسب الإصابة).
• الاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية.
• مكافحة العدوى باتخاذ تدابير وقائية أكثر صرامة في المنشآت الصحية.
بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات وتوصيات لحماية البيئة وإدارة النفايات، مع تطوير أدوات تشخيصية قليلة التكلفة ودقيقة النتائج، خصوصًا في الدول النامية.
وتعمل منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الحكومات على تحديد أولويات مكافحة هذه الظاهرة، وتعزيز برامج التدريب والوعي، وتحسين أنظمة المراقبة، وزيادة الوقاية من العدوى.
إن تحديات مقاومة المضادات الميكروبية معقدة ومتعددة الأوجه، لكنها ليست مستعصية. ويتطلب الأمر مسؤولية مشتركة من متخذي القرار والعاملين في مجال الرعاية الصحية والمزارعين والجمهور لتضافر الجهود.
وستُسهم التوعية بمقاومة المضادات الميكروبية في إنقاذ حياة الملايين، والحفاظ على المضادات الميكروبية للأجيال القادمة، وتأمين المستقبل من مسببات الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية.
ورغم كل هذه التحديات، إلا أن هناك أمورًا كثيرة تدعو إلى الأمل والتفاؤل.
استراتيجيات مبتكرة لمكافحة المقاومة
البحث العلمي في هذا المجال لا يتوقف، ومع وجود تكنولوجيا جديدة ودمجٍ بين البحث التطبيقي والمحاكاة المستخدمة في اكتشاف الأدوية (In silico and simulated experiments used in drug discovery)، أصبح بالإمكان توفير الكثير من الجهد والوقت.
بالإضافة إلى مناهج علاجية جديدة يستكشفها الباحثون وتُقدّم حلولًا مبتكرة تبشر بنتائج واعدة في طريقها للتطبيق السريري – بإذن الله – ومنها:
• العلاج بالبكتريوفاج (Bacteriophage therapy):
استخدام فيروسات تستهدف الخلايا البكتيرية بعينها وتقتلها بشكل محدد دون الإضرار بالأنسجة البشرية أو بالبكتيريا النافعة.
• الببتيدات المضادة للميكروبات (Antimicrobial peptides):
فئة من العوامل المضادة للميكروبات عبارة عن سلاسل بروتينية تم عزلها من مصادر طبيعية مختلفة مثل البكتيريا والنباتات والحيوانات والحشرات وغيرها من الكائنات. تتميز بنشاط حيوي واسع النطاق وتأثيرات فعالة مبيدة للميكروبات، وتظهر آليات عمل متعددة، كما تلعب دورًا هامًا في الأنظمة الدفاعية للكائنات الحية، وتبرز تدريجيًا كبدائل محتملة للمضادات الحيوية التقليدية.
• مثبطات استشعار النصاب (Quorum-sensing inhibitors):
وهي مركبات تتداخل مع أو تُعطّل آليات التواصل الميكروبي، مما يقلل من ضراوة الميكروبات دون قتلها. تُظهر مثبطات استشعار النصاب إمكانات كبيرة في تقليل الإمراضية البكتيرية، وتكوين الأغشية الحيوية، وإضعاف شراسة الميكروبات وآليات مقاومتها للمضادات الميكروبية.
• النانوبيوتيكس (Nanobiotics):
وهي فئة من المواد ذات حجم نانوي (1 إلى 100 نانومتر)، تعمل كعوامل مضادة للميكروبات أو لتعزيز توصيل الدواء. تُعد النانوبيوتيكس إحدى الاستراتيجيات الواعدة لمواجهة تزايد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
• مضادات حيوية جديدة:
لا يزال البحث جاريًا لاكتشاف أنواع جديدة من المضادات الحيوية من مصادر جديدة أو معاد اكتشافها. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف ببتيد “لاسو” (Lasso peptide) معزول من بكتيريا التربة (Paenibacillus sp.)، يهاجم البكتيريا من خلال الارتباط مباشرة بآلية تخليق البروتين الخاصة بها، وأظهر فعالية ضد البكتيريا المقاومة دون سمية على الخلايا البشرية.
• التأثير التآزري (Synergistic effect):
يمكن الجمع بين عدة مضادات حيوية أو بين منتجات طبيعية ومضادات حيوية للتغلب على المقاومة، إذ قد يكون تأثير الخليط أقوى من مجموع تأثير كل مركب على حدة.
• استخدام نظام كريسبر/كاس (CRISPR-Cas):
تتكوّن مجموعة كريسبر من تسلسلات متكررة مفصولة بتسلسلات فاصلة، ويُعدّ هذا النظام مناعيًا تكيفيًا موجّهًا بالحمض النووي الريبي في البكتيريا، يتعرّف على العناصر الجينية الغازية مثل البلازميدات.
ونظرًا لقدرته على استهداف تسلسلات DNA المشفَّرة لجينات مقاومة المضادات الحيوية وتثبيطها، فقد طُوّر نظام كريسبر/كاس ليصبح أداة جديدة للوقاية من مقاومة الأدوية البكتيرية.
ويلعب دورًا مهمًا في التحكم في النقل الأفقي للجينات والحد من انتشار المقاومة، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة التطبيق التجاري.
دكتور/ محمد عبدالمنعم ابراهيم السخاوي
كلية العلوم الطبية التطبيقية
قسم المختبرات الطبية
