النجاح والهاوية

لعل من أكثر الأوقات غواية في معنى النجاح ما نعيشه في وقتنا الحالي، فأصبح معنى النجاح منحرفًا عن معناه الأساسي. أول معيار له هو الشهرة دون تحقيق لعمق المعنى، بل من شروط النجاح أن تعرّف نفسك بأنك مشهور أو صاحب حساب على أحد منصات التواصل الاجتماعي – ولا أعني هنا عدم جدواها، بل أن لا تصبح معيارًا لتقييمي كشخص ناجح من عدمه.
فالنجاح يتحدد بإطارات شتى وطرق عديدة، فنجد شخصًا ناجحًا أدبيًا، وآخر طبيًا، وكذلك ثقافيًا وعلميًا، وكذلك تجد شخصًا ناجحًا بمهاراته وهواياته، بعيدة كل البعد عن مستواه العلمي، فتجده رسامًا مميزًا أو نجارًا محترفًا، فالمستوى المعياري هنا هو الإتقان والتفرد في الصنعة، وليس الشهرة فقط. فالشهرة نستطيع أن نطلق عليها قشرة النجاح، فهي تعطي للنجاح بُعدًا أكبر وصدى أوسع فقط.
وإن استطردنا عن تعامل الناس مع الشخص المشهور – أياً كانت شهرته – فسنجد عجائب وغرائب تدعو للتأمل والتفكر؛ فأصبح المشهور هو من يحدد المبادئ والقيم وطرق التعامل الأفضل، وكأن علوم كسرى وقيصر اجتمعت فيه! لكننا نجمع على أن الخطأ يقع على أفراد المجتمع الذين ناصروا معنى النجاح الظاهر وتجاهلوا عمق معناه.
ذُكر في مقال “غواية الضلال” تشبيه دقيق عن ذلك الانحراف في المعنى:
“وهذا التحوّل العنيف في تعريف النجاح لم يكن مجرد خطأ معرفي، بل كان انزلاقًا وجوديًا زحزح ميزان القيمة من الداخل إلى الخارج، ومن النية إلى النتيجة، ومن الصدق إلى الصدى”.
يشير هربرت ماركيوز، في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد إلى أنه:
“قد صار الإنسانُ يعرِّف ذاته بما يُنتِج، لا بما يكون، ففقدَ قُدرته على التوقُّف عن الجري في الساقية”.
وحين تتأمل المشهد الحالي، ترى البعض اليوم يسعى في نجاح ميزان الأرض، فضلًا عن ميزان السماء وهو أصل الخلقة، فتجدهم يسلكون طرقًا بعيدة كل البعد عن المسالك الدينية والقيم الإسلامية، ولا تصل بالقيم والمبادئ الإنسانية أيضًا، بل اتبعوا فيها أهواءهم، فأضلّتهم.
وأشار دو بوتون في كتابه قلق السعي إلى المكانة، واصفًا اضطراب الطموح المعاصر:
“لقد تحوّل الطموح في العصر الحديث من سعي نحو التميز إلى هوس بالتفوق، ومن رغبة في العطاء إلى إدمان على الإنجاز”، فاحترقت معها معاني النجاح العظيمة.
ولعل الخلاصة من غواية معنى النجاح أن نعيد تعريفه، ونسقطه على معناه الرباني كما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فوصفه بمعناه الأعمق والأرسخ، فوصفه بالفلاح.
مها عايض العتيبي
كلية التربية بالدلم